حينما نتحدّثُ عن الشّعر , سنتحدّث عن الإنسان , والتعبير عمّا يجول في أعماقه , ذلك التعبير الممزوج بالعاطفة ,
وحينما نتحدث عن تسمية بالتأكيد نتحدث وقتها عن بدايات الظهور ,
ومما لاشكّ فيه أنّ تسمية الشعر الشعبي , بهذه المسمّيات الكبيرة , دخل مراحل جدل واسعة في الأوساط التاريّخية والأدبيّة ,
ومن أشهر الآراء , والتي وقفتُ عليها وبحثتُ عن مصادرها , تلك التي ترى أنّ ( الشعر الشعبي ) يعود إلى الشعب , ومعنى ذلك أي لهجة الشعب , وطريقة خطابهم العام , لذا قالوا ( شعر الشّعب , أو الشعبي )
ومن الآراء ماتذهب إلى تسميته ( الشعر البدوي ) , ويروى هؤلاء أنّ هذا اللون من الشعر ظهر في المجتمعات البدوية , ( نُطقاً وطريقة حياة ) , لذا يعتبرون أن بدو الجزيرة العربية هم أساس الشعر البدوي !
ومن الأراء الجديرة بالوقوف عندها , من يسميه ( الشّعر النبطي ) ,
وهنا ينقسم أهل هذا الرأي لقسيمن , منهم من يرى أصل الكلمة لغوية , ومشتقة من الاستنباط , لأن هذه اللهجة العامية استنبطت الشاعر من الفصحى , أي استخرجته , ويقال " استنبطَ الماء " أي استخرجه , وهذا رأيٌ لغويّ !
والقسم الآخر يرى أنّ الشعر النبطيّ , يعودُ إلى الأنباط , وهي مملكةٌ عربيّة نشأت في شمال الجزيرة العربيّة , في الفترة مابين القرن الرابع إلى 312 ق.م , وانتهت أو زالت مملكتهم في بدايات 106 م , وكانت حاضرتهم البتراء , وهم شعبٌ ذو ثقافة , وحضارة وأهلُ كلام , وعبدوا آلهات , وكتبوا الشعر , ونحتوا الجبال والحجارة !
ويرى الباحث كليرمو جانو أنّهم كونوا مستعمرات , وأسسوا مملكة عظيمة !
وحينما تلاشت هذه المملكة , بدأت أفرادها في الانتشار في الجزيرة العربية ومصر , للتجارة والحياة !
وكانوا يقولون الشعر , المخالف لعربية الجزيرة , فأطلقوا عليه " شعرٌ نبطيّ " !
وللمعلومية ياسيدي وصديقي القدير مارسيل , اللغة العربية الفصحى التي نتحدثُ بها ووصلت إلينا , لم تكن هي لغة الجزيرة , بل كانت لغة قريش , وكانت في الجزيرة لهجاتُ أخرى كثيرة , لذا من الطبيعي جداً أن تتحدث قبيلة تغلب لهجتهم الخاصة , هذا رأي !
والرأي الآخر , أن القصيدة المنسوبة لكليب , لم تكن كذلك , لكن مخرج المسلسل _ كما يقال _ أراد للدراما أن تأخذ منحى آخر !
هذه لمحة موجزة , لما يُسمى الشعر البدوي , الشعبي , النبطيّ !
لطالما أخذ مني الوقت في جلساتنا !
وكما يذهب صديقنا العزيز الأديب لوركا , على أنّ القيمة الفنّية للشعر , تبقى موجودة , مهما كان جنسه أو لونه !
والشعر الشعبي ياأصدقاء , مرّ بمراحل عديدة ,
فهنالك شعرٌ يعدّ من جاهليّة الشعر الشعبي , ويمتاز بالمفردة الجافة , والكلمات الكلاسكيّة , والمعاني الرائعة النبيلة ,
وتحضرني الآن أبيات قرأتها في الموسوعة العربيّة , في بحث خاص عن الشعر ,
أبيات على لسان أحد قدماء الشعر الشعبي , اسمه مشعان الهتيمي ,
يقـول مشعـان الهتيمـي تفلهـم
قاف رجس بين الضلوع المغاليـق
ياونتـي ونـة ثــلاث هـلايـم
من نسفهن خضر الجمام الدغاريق
سواقهن عبد مـع الليـل يجهـم
وأنجح مصاخفهن بروس المساويق
قالواهيم قلت الهيم حالـه أسقـم
وقالواعليل وقلـت مافـي تبريـق
هنا نجد الكلمات التي تحتاج إلى معجم بدوي , والمعاني البدوية الأصيلة , ونجد أسس ومقومات القصيدة الشعبية الكلاسيكية , مثل كلمة " ياونتي " , وهي كلمةٌ درج على استخدامها شعراء النبطيّة منذُ القدم ,
ومن خلال تتبعي للشعر الشعبي , أجد أن الأمير بدر بن عبدالمحسن , هو من أدخل للشعر الشعبي مفردات جديدة , وجدّد به , وكان مدرسة الحداثة والتغيير ,
تصور ياصديقي مارسيل في الفترة التي كان يقفُ فيها البدوي على الأطلال ويصرخُ ياونتي ,
كتب البدر ,
وترحل ,
صرختي , تذبل
في وادي لاصدى يوصل
ولاباقي أنين ,
زمان الصّمت , ياعمر الحزن والشكوى
ياخطوة ماغدت تقوى
على الخطوة ,
على همّ السنين !
وتبعه الكثير , وتعدّدت المدارس وظهر في ذات الزمن , خالد الفيصل , امتاز شعره بالتصوير الفني , والتركيب اللغوي القويّ , وخرج من هذه الأسرة كذلك عبدالرحمن بن مساعد , وهو شاعرٌ يمتاز يغنائيته , وكتابته للمجتمع , وليس ببعيد عنهم السامر , وسعود بن عبدالله , وخالد بن سعود , ومن قبلهم الأمير محمّد الأحمد السديري , الذي كتب قصيدة من عيون الشعر النبطي وقال فيها :
لاخاب ظني بالرفيق الموالي ...مالي مشاريهٍ على نايد الناس !
( الله الله ) ,
وكلنا لايجهل الملتاع طلال الرشيد , أو ابن ضيدان ,
وفي مرةٍ سألتُ الشاعر الشاب المبدع فهد المساعد عن الشاعر الذي يرى أنّه رائد الشعر النبطي , أشار بدون تردد أنه بن لعبون !
(( صدّقني ياصديقي مارسيل , أنّ الشعر الشعبي يزاحم الفصيح في كلّ مدن المملكة , ولديه جمهوره ومؤيدوه , ماعدا جازان , التي مازالت تحتضنُ الفصيح وتدعمه , لدرجة أن الأديب والإعلامي أحمد التيهاني قال على القناة الثقافية السعودية , حين أحضر لأداء أمسية في جازان أشعر بالخوف والربكة , فأنا في حضرة الشعر وأهله ,
وحضرتُ أمسية للعشماوي في عام 1424هـ في جازان قال يومها " أنا كمن يحمل التمر لهجر " , وأقمتُ أمسية في مسرح إدارة تعليم جازان , وكنتُ طالباً في الثالث الثانويّ , وحضر جمهور أدهشني , وغطى المدرج بأكمله , ومازال الفرد الجازاني يحتفل بالشعر والشاعر , وليس ببعيد عنا ندوة الوفاء التي أقامها أدبي جازان للشاعر الرّاحل الوالد إبراهيم شعبي _ رحمه الله _ ))
قد أعود يامارسيل , مازلتُ أريد الحديث , والحديث معكَ مُغري بوجود النخبة من الأصدقاء هنا !