أفرجت الأرض عن قيود النهار .. لتتناول الليل وتكبّله ,وتبدأ بدورها كما كلّ ليلة باستجوابه عن رحلته بنصف يوم .!
ويبدأ بتسجيل شهادته لكل ظلمٍ وتجبّرٍ أخفشَ عيناه التي يباهي بها كعادته بأنها لا تكترث لما تراه .!
هناك على حافة القرية يقع بيتٌ أو يحطّ كوخ ضئيل قد صنع بيدين متهالكتين لا تقويان على رفع قطعة الخشب قيدَ رمح ,
فبدا للناظر كصخرةٍ مطلية بألوانٍ عشوائية بسبب ترامي مِزَقِ الأقمشة لتسدّ أشعّة الشّمس نهاراً وتحجب البرد ليلاً .
هناك على حافة القرية بداخل ذاك الصندوق تجثم تلك العجوز الطاعنة في السن وقد بلغت عقدها الثامن ،
والتي تفوح منها روائح التجارب ويلمح في وجهها معاجمٌ من الكدّ .. وتنبع من عينيها دموع رحلةٍ طالت عليها .وجسدها يوحي بوعثاء السفر وإن كانت تقطن بصندوقها عقداً من الصّبرْ.!
حين أنهت الأرض استجواب الليل خيّم على محيطها السواد لما سمعته من تمتمات الليل الذي لا يصدّق بدوره ما يقذفه لسانه .وضعت هذه العجوز يداً على عَرْصَتِها وبداً على خِصرها المعووج من كثرة استناد يدها به ، والأصح أن كلاهما يستند بالآخر ورفعت رُكبتَها بعد عراك مع الذبول الذي أكلّها.. والإنحناء الذي يريد أن يُرغم وجهها بالتراب .وهي تنظر كل برهة باقتراب التراب نحوها وتظنّ أن الأرض ترتفع كل يوم ، ولا تعلم بأن ظهرها يلمِّحُ لها بأن الموت قد زاره منذ الأزل . وهي لا زالت تحمله وكأنها توحي إليه بابتعاثهْ .
( حقير هذا التراب .! .. لماذا يتقرب إليها كلّ يوم ؟ أيريد أن يرفع حصيلة الشمَتِ بها على ما تمتلكه من ذلْ .! )
وهاهي ثابتة واقفة بترّحها .! فلقد أعلنتْ الإنتصاب وقت بدئ الشمس بتمتمات الأفول . ولم تنتصب ـ كما تظنّ ـ إلا حين طليت الأرض بذاك الصبغ المعتم .
في تلك الليلة ترقبت خيوط القمر بعينها الضامرة . ولكن القمر يخلف موعده هذه الليلة . فاجتازت حواجز طرّاحتها المستوية بمهارة عمياء لتطبع على حائط صندوقها قبلة بيدها من قوة اتكائها عليه فتهبِش بيدها ليردعها السراج فتستدل على مكانه من شدة الظلمة ، فتتناوله بكلتا يديها وهي فرحةٌ وكأنها تحتضن ولدها أرادت أن تستدل على خصره لتديره حتى يتبّسم لها .ولكنّها لا ترى غير العبوس فعرفت أن السراج لم يومض فتبسمت بتنهّدوعلمت أن الوقود قد انتهى .فعادت لمطرحها حيث الحصير المهمّش ، ورمت بكل جسدها ( الصغير ) وتضع يدها تحت خدها وهي مطروحة فِراشها لتغمض عينيها وتفتحها مبتهجةً بقدوم الشمس لتقسّم أشعتها على الخليقة بعدلْ .
لن ترى النور .. ولن ترى حتى جسدها ..! فالسراج في الحقيقة مضاء ، والقمر يداعب النجوم في تلك الليلة وقد بدا بدراً .! لقد أُضيف إلى ممتلكاتها التي لم تشأْ أن تكون لها ذات يوم ، بل وتوسلت ألا تكتب لها ..! أُضيف لها السواد الدائم ( العمى ) ...!
( فحازت على وسام شتيمة القدر ).!






ليلة الخميس
11/9/2008م