من ذاكرة العُمر
ركضنا .. ولم نتعب
لا نشكو إلا نعومة أظافرنا حيث لم تكن تقوى على فتح غطاء علب العصير..
الفرح فينا يولد كل يوم كالطفل من جديد
ذاكرتنا وكل ما في داخلنا فراغات غير مسكونة
***
كنا نركض..
بحثا عن صورة جديدة في الحياة
نـَهـَـمٌ في أرواحنا يدعونا أن نستزيد من كل شي
حتى الطين.. حتى الرمل
كل شي فينا كان يحفظ الأشياء التي تمر به
المكان، الزمان، اللون، الرائحة، كلها كانت تدخل إلينا حتى الأعماق
لا شيء مألوف أبداً .. كل ما هو حولنا جديد ورائع وشهي..
حتى وقع المطر على أيدينا ، صوت الطيور ، حفيف الأغصان
صقيع الصباح، وبحثنا عن لحظة دفء تحت الشمس الباكرة..
***
حقائبنا ، لون ملابسنا ، أحذيتنا ،
دفاترنا والخطوط تسطر الورقات، حتى عنوان الدرس والتاريخ واليوم
ماذا قلنا ماذا يقال لنا ..
كانت مساحات الدماغ لدينا تستوعب كلّ شيء..
ملاعبنا ، رائحة الهجير ، و لون المساء عندما نغادر ملاعبنا عائدين كالطيور إلى أوكارها
حتى ملامح الشيوخ الذاهبين العائدين للمساجد.. وصوت الأذان في الممرات..
لم يكن أي شيء حولنا إلا جديدا فريداً حِـساً ومعنى..
***
كنا أشد ما نتوق إلى أن نصبح ذوي قامات طويلة كـ فلان
كنا نتوق إلى أن تصبح سواعدنا أشد غلظة كساعد الحطاب والمزارع..
كنا نتوق أن نكبر لو سنة أو سنتين للأمام حتى نعرف عن الغد كيف يكون
ليس أكبر من عالمنا عالم آخر، خاصة عندما نجتمع صبية نلهو بالتراب
نتحسس الأرض الأم كأننا متجذرين فيها متوغلين داخلها
وما أكثر صراخ أمي عليّ حين تراني افتعلت شيئاً خطأ
أو وسخت ملابسي أو بعثرت أشياء منزلنا ولربنا كسرت لها ريحانتها الصغيرة
أو ... أو تشاجرت مع أخي ..
***
يا أمي لم يكن ذلك إلا محض شقاء ولم أفعله عن أمري
ذلك تأويل مالم تستطيعي عليه صبراً..
ها أنا اليوم يا أمي أراني كما كنت أتمنى، كبيرا مثلهم..عريضاً كما كنت أحلم..
لكنني أضعت ذاكرتي التي كانت تستوعب كل شي حولي وتبحث عنه..
في زحمة العمر يا أمي تربعت على عرش الأربعين
لم أكن أعلم بذلك
لم يكن من اختياري والله .. جاءني هذا العمرغيلة ، داهمني بغته..
سلبني ذاكرتي ، وسمل عينيّ ، وجذع أنفي ، و اجتز أذني ..
فلم يعد هناك مايدعوا للفرح كي أستدعيه
لم تعد هناك مساحات كالتي كانت أيامَ كنتِ ..
***
قلبي .. ولم أحرص عليه ، فتيبس في صدري ومات..
دمعي .. تحدر كثيراً فجف نبعه وغارت ملوحته في حلقي..
صوتي .. بُحّ .. فقد لهثت في هذه الحياة كثيراً
فما روى عطشي في هجير العمر شيء..
لم يعد أي شيء يدعونا للسرور ..
عيــيت بحثا عن ذاك فلم أجده..
ها أنا ذا في صومعتي لا أشتم إلا نسمات الماضي العاطرة
ولا أرى إلا صور مخيلتي القديمة كتلفاز جدي الأحمر القديم..
فكل ماهو حولي لا يدعوا أبداً للنظر إليه..
مجرد من الحياة .. خالٍ من كل شي إلا لون الرماد وبقايا الشحوب..
هذه هي ذاكرتي يا أمي .. بعد أن غدوت كبيراً..